ما هو أكثر شيء تشتاق إليه؟ أجوبة اللاجئين السوريين

ما هو أكثر شيء تشتاق إليه؟ أجوبة اللاجئين السوريين

ما هو أكثر شيء تشتاق إليه؟ أجوبة اللاجئين السوريين

By : Rochelle Davis and Abbie Taylor

ما هو أكثر شيء تشتاق إليه؟ أجوبة اللاجئين السوريين

[تمثل الأقوال التالية جزءاً من بحث مستمر يتناول مواضيع اللاجئين السوريين. وتقوم بهذا البحث الأستاذة روشيل ديفيس مع فريق من الباحثين في جامعة جورجتاون.  انقر هنا لقراءة المقالة التي نشرتها روشيل ديفيس وآبي تايلور في صيف 2013 والتي تتناول خلفية وسياق أزمة اللاجئين السوريين في لبنان والأردن.

النص: روشيل ديفيس وآبي تايلور. الصور: أندرو فارند وآبي تايلور. ساعد في التحرير والترجمة: لؤي الهاشمي، حسام الجولاني، غريس بنتون، إيما مورفي، نيكولاس غريفين. تحية تقدير لفريق بحث اللاجئين في الأردن ولبنان وللاجئين الذين تعاونوا وعملوا معنا.]

----------------------------------------------------------------------------

هُجِّر حتى الآن حوالى ٤٠% من سكان سوريا من بيوتهم، وقد عبر حدود سوريا خلال الخمسة عشر شهراً الأخيرة أكثر من مليوني سوريٍّ كلاجئين إلى تركيا والعراق والأردن ولبنان. وبينما تابع بعضهم إلى الوجهة الجديدة بلغاريا فإن أولئك الذين قصدوا مصر واجهوا صعوبات كبرى تجلت في عدم الاستقرار وتضاؤل الخيارات والفرص وكل ذلك ناتج عن الاضطرابات الداخلية التي تعاني منها مصر. في الوقت نفسه اضطر سوريون آخرون إلى أن يتكبدوا عناء أكبر في سبيل الوصول إلى بلاد أوروبية مخاطرين بحياتهم أثناء سفرهم عن طريق البحر الأبيض المتوسط. 

وعندما أجرينا هذا الصيف لقاءات مع من هُجِّروا بسبب العنف والحرب، طرحنا على عدد منهم، ممن هربوا إلى الأردن ولبنان، سؤالاً محدداً :(ما هو أكثر شئ تفتقده/تفتقدينه أو تشتاق/تشتاقين إليه؟)، وفي هذه المقالة سنعرض بعضاً من إجاباتهم. إن كلماتهم والصور الحية التي استحضروها تحثنا على تذكّر من هم هؤلاء الناس، وما الذي تعنيه سوريا بالنسبة لهم، وما الذي فعله العنف بهم وبحياتهم، وكيف هم وملايين من أمثالهم سيتحملون هذه الحرب، وكيف ستساعدهم ذكرياتهم على إعادة بناء حياتهم. إنّ كلمات المهجّرين السوريين ستساعد القراء البعيدين عن واقع العنف هذا في تكوين فكرة أفضل عن واقع تهجيرهم وتجربتهم من خلال إجاباتهم على هذا السؤال البسيط.  في هذه المقالة ألحقنا إجابات اللاجئين السوريين و(الفلسطينيين) بصور من سوريا التقطها أندرو فارند عندما كان يدرس العربية في سوريا في عام ٢٠٠٥، وصور أخرى التقطتها آبي تايلور في عام ٢٠١٠.

ما هو أكثر شىء تشتاق/ين إليه؟

. امرأة عمرها ٢٧ عاماً من حمص،  في سوريا و الآن في الأردن

”مشتاقة كتير لبلدي لأشم ريحتها. ما عندي غير أمي هوني. أخواتي معتقلونهم بسوريا ٣ أخوة شباب. ما بنعرف عنهم أي شي. مشتاقة إلى أني إرجع لبلدي (أمين). “

\"\"

. رجل عمره  ٦٨ عاماً من حماة، سوريا حالياً يسكن في الأردن

”مشتاق لكرامتي. ومشتاق لابني لأنه موجد بمفرده مع هؤلاء الوحوش المجرمين.“ 

. امرأة عمرها ٤٠ عاماً من ريف دمشق، سوريا، و الآن في الاردن

”أكثر شي مشتاقتلو هو الوردات يلي ع البرندة تبع بيتي بسوريا ومشتاقة لحارتنا ولبيت أهلي (بيت الطفولة يلي ربيت فيه وهدموه قوات النظام). أكثر شخص مشتاقتلو جارتي لأنو هي أكتر حدا كنت شوفو وكانت منيحة وأخلاقها عالية ودمها خفيف.  إنشاء اللّه تكون بخير ويطلع زوجها من المعتقل بالسلامة.“ 

. رجل عمره ٢٥ عاماً من ركن الدين، دمشق، سوريا حالياً يسكون في إربد، الأردن

”أنا أكتر شي بشتاق إلو هو رفقاتي يلي استشهدو وما بعرف بكرا لما ننتصر بإذن اللّه ونرجع عالبلد ما بتخيل شلون رح تكون حياتي بدونهن. أصحابي يلي كنا على طول سوا نطلع ونفوت سوا نضحك سوا ونبكي سوا نطلع بالمظاهرات سوا. اللّه يرحمهن.“  

. رجل فلسطيني عمره ٤٢عاماً من مخيم اليرموك، دمشق، يسكن حالياً في مخيم برج البراجنة، لبنان

” بشتاق لأيام الجمعة في الحارة. بعد الضهر كانو الجيران يتجمعو ويحكو قصص لنص الليل. بشتاق لبيتي وشغلي. أكتر شخص بشتاقلوه هو ابني إلي استشهد... الله يحفظ روحه.  بشتاق للحكي معه وسماع صوته. بشتاق احضنه... بشتاق أمر من باب غرفته واشوفه هو واصحابه بلعبو. الآن ما ضل حدا... كلهم راحو. بحكي مع اخوي إلي ضل في المخيم لما بتوفر تلفون بنطمن على بعض... الله يحفظه هو وعيلته...“

\"\"

. رجل عمره ٢١ عاماً من قرية داعل في محافظة درعا، سوريا؛ يسكن حالياً في إربد، الأردن

”أنا مشتاق لوطني، ولقريتنا ولبيتنا، مشتاق لرفقاتي يلي تشاركت معهن أحلى اللحظات، ومشتاق لشجر الزيتون وحقول القمح. مشتاق بالدرجة الأولى لحبيبتي يلي كان المفروض تكون خطيبتي لولا هالحرب يلي أعلنها النظام عالشعب.“

. امرأة عمرها ١٩ عاماً من إدلب، سوريا، والآن في إربد، الأردن

”أكتر شخص مشتاقتلو هو بابا حبيبي يلي دفناه بسوريا (اللّه ينتقم من يلي قتلو).“

. رجل فلسطيني عمره٢٣عاماً من دمشق، سوريا، الآن في لبنان

”مشتاق لبيتنا. (أكتر شخص مشتاق له) صديقي أنس تربينا سوى واستشهد السنة الماضية. بفكر بالأيام يلي عشناها سوى والأشياء يلي كنا نعملها وكانت أحلى أيام.“  

. رجل عمره ٣٧ عاماً من مدينة معضمية الشام، ريف دمشق، سوريا الآن في إربد، الأردن

”أكتر شي بشتاق لأبي وأمي وأخواتي وجيراني يلي ما استطاعو أنو يخرجو واختارو أنو يبقو بسوريا. وبحاول أتصل فيهن كل ما سمحتلي الفرصة عن طرق الهاتف أو عن طرق النت.“ 

. امرأة عمرها ٢١ عاماً من مدينة دمشق، سوريا الآن في إربد، الأردن

”أكتر شي مشتاقتلو هن رفقاتي وأخي يلي ضل بسوريا عمحارب مع الجيش الحر.“ 

\"\" 

ومن بين هؤلاء المهجَّرين فلسطينيون هُجِّرت عائلاتهم في عام ١٩٤٨عندما تم ”تأسيس“ دولة إسرائيل، حيث أقاموا في سوريا وقد تجاوز عددهم فيها النصف مليون. ومما يعقِّد وضعهم وقدرتهم على اللجوء خارج سوريا هو أنهم شعب عانى مسبقاً من حالة عدم الأمان والتهجير المتكرر ولطالما تخبطوا مابين وطن يعرفونه (سوريا) ووطن يتوقون إلى العودة إليه. وبينما ترفض الأردن دخولهم، تسمح لهم لبنان بالدخول إلا أن كلفة المعيشة المرتفعة وصعوبة حياتهم هناك كفلسطينيين تشكل عقبة كبيرة أمامهم وقد بلغ عدد اللاجئين هناك سبعين ألفاً.  وقد اتبع كل اللاجئين من سوريا نفس خطوات أولئك الذين سبقوهم من المهاجرين واللاجئين الفلسطينيين والعراقيين والأكراد والسودانيين راجين الأمان والملجأ والعمل والتعليم والمجتمع والاستقرار داخل العالم العربي وخارجه.

. رجل عمره ٤٥ عاماً من مدينة حرستا، سوريا، يسكن حالياً في إربد، الأردن

”قررت أخد عيلتي ونجي عل الأردن. وأحنا جايين على الطريق وقفنا حاجز أمن وشافو هوياتنا وأخدو ابني الكبير وكلنا صرنا نبكي. ونقلن مشان اللّه اتركوه بس ما كانو يردو علينا وقالو أنو له اسم عندنا من بين الأسماء المطلوبة. اللّه لا يوفئهن! و بعدها مرتي بطلت تترك البلد لأنو كيف بدها تروح و هي ما بتعرف ابنها وينو؟ وإذا طلع بمين بدو يتصل؟ وهلاء إلنا شي ٨ شهور ما منعرف شي عنو. ومرتي ضلت بسوريا عند أقربائها هي و بنتي الصغيرة. وأنا جبت ولادي البقيانين لهون عن طريق اللجوء إلى مخيم الزعتري. وبعد ما أجا أخي عل الأردن واستأجر بيت. طلعت من الزعتري وسكنت معو. واختلفت حياتي هون كتير. تشردت عيلتي وما عندي شغل اشتغلو. وعندي خوف دائم من المستقبل. سجلت بالمفوضية من جديد ولسا دوري ما أجا لهلأ. أنا هون على طول بقلق دائم بتعذب كتير لائدر أطمن على مرتي وبنتي بسبب قطع الاتصال .وعلى طول بضل بسأل حالي يا ترى ابني عايش ولا لا. كيف عم يأكل، كيف عم يشرب، وأكيد عم يعذبوه. 

أنا على طول بحلم أرجع على سوريا وعلى بيتي يللي مشتاقله أكتر شي والزريعة يللي كنت على طول أسقيها. ومشتاق للطيور يللي كنت عم ربيهن عل سطح بيتي وبفقدلن كتير هنن وبيتي يللي قضيت كل عمري فيو ويللي أتهدم. وأملي كبير بالله أنو أرجع و أبنيه وعيش فيه بقية عمري. وإذا ما راح بشار الظالم ما رح نحسن نرجع لأنو مجرد ما نفوت عل البلد. رح يعتقلوني متل ما اعتقلو ابني. 

وأكتر واحد مشتاقله هي بنتي الصغيرة يللي كانت ما تتركني أبدا وتروح معي وين ما روح. وهي حبيبة قلبي. وهون أنا والناس أكتر سيرة منحكي فيها عن أخبار سوريا. وأكتر شي بخاف منو هو أنو موت هون وما أرجع على بلدي وأنو هي الحرب تطول أكتر من هيك.“ 

. رجل فلسطيني عمره ٤٦ عاماً من مخيم جرمانا، الآن في لبنان

”حياتي هون متل الرجل العوق. ما بعمل شي. بضل بهالبيت وبدور على شغل. بس بسوريا كانت أحوال غير. كنت أشتغل وكان عندي أصدقاء كتير أزورهم. مشتاق لمخيم جرمانا. مشتاق لصوت الأطفال بالشارع وعم يلعبوا. مشتاق لأهلي بالذات أخوي الكبير يلي كان يساعدني ودايما يطل علينا. بفكر أي سفارة فاتحة الهجرة لأنو كرهان العيشة هون.“

 \"\"

. رجل عمره ٤١ عاماً من ريف حلب، سوريا، الآن في الأردن

”من أكثر الأشياء المشتاق إليها عملي، كنت أعمل (فني كندشن) وأشتاق لممارسة العمل من جديد. ومن أكثر الأشخاص الذين أشتاق لهم والدي (أمي وأبي) لأنهم سبب تعليمي، و تربيتي، وصنعي رجل.“

. رجل عمره ٢٣عاماً من حمص، سوريا، الآن في عمان  الأردن

”مشتاق لحارتي وأكتر شي مشتاق للجامعة وللقاعات وللمحاضرات لأن أحلى أيام حياتي هي بالجامعة. تقريبا كل أقاربي صاروا هون بالأردن وأكتر واحد مشتاق له هو رفيق الجامعة. هو معتقل سجون النظام من سنة وما بعرف عنو شي وأنا خايف عليه.“ 

\"\"

. رجل فلسطيني عمره ٢٣ عاماً من مخيم يرموك، دمشق، سوريا، حالياً يسكن في لبنان

”مشتاق للفلافل الشامي. اخوي ابراهيم الله يرحمه استشهد ودايما بفكر فيه. بفكر بأخوي والأطفال يلي استشهدو معه.“ 

. شخص عمره ٣٥ عاماً من حماة، سوريا، الآن في الأردن

”الحياة هون تختلف عن هناك. وهون أعيش بالغربة والحياة صعبة والمعيشة غالية. أحسن شي هون هو الأمان، أحسن من هناك. أكتر شي مشتاق له أن أرجع إلى بلدي وشوف أهلي، أرضي، وبلدتي. أكتر واحد مشتاق له هو والدي لأنني هربت من سوريا ولا أعرف عنه شي.“   

\"\"

. رجل عمره ٢٤ من قرية جاسم، محافظة درعا، سوريا الآن في إربد، الأردن

”أكتر شي مشتاقلو هو أمي يعني شاء القدر أنو تكون هي ببلد و أنا ببلد. هي موجودة بالسعودية واتصالي فيها أغلبو عن طريق النت. والشخص التاني هو صديقي يلي موجود حاليا مع الجيش الحر بس تواصلي معو قليل جدا بحكم أنو الإتصالات سيئة والنت سيئ وأصلا في حال توفر النت هو ما عندو الوقت ليستخدمو.“ 

. رجل عمره ٢٣ عاماً من دمشق، سوريا يسكن حالياً في بيروت، لبنان

مشتاق لغراضي وجامعتي ومرسمي ورفقاتي. مشتاق أرجع أسهر وأطلع وأفوت ع الشام بحرية وبدون حواجز. مشتاق لحبيبتي للي سافرت ع السويد مع عيلتا. هي كانت أملي الكبير بالحياة. بفكر فيها كتير وكيف كان ممكن نتجوز ونعيش مع بعض. كمان هي مسيحية. بتواصل هلاء مع رفقاتي وقرايبيني ع النت أو ع الموبايل. هاد الحل الوحيد بما أنو ما قادر أشوفن.“ 

تُعْتبر مدينة حمص، وهي ثالث أكبر المدن السورية، مركزاً من مراكز سوريا التجارية والزراعية ومسقط رأس لمجموعة متنوعة من السكان المعروفين بكونهم متدينين ومحافظين. وقد كانت حمص مقراً لبعض المظاهرات منذ بدايات الثورة مما جعلها هدفاً لقوات جيش النظام في شهر أيار/مايو عام ٢٠١١. وقد ترك الآلاف من سكان حمص بيوتهم في العديد من أنحاء المدينة نتيجة للقتال المستمر والذي دمر العديد من البيوت والشوارع، حيث بلغت نسبة المهاجرين من حمص وقراها المجاورة حوالي ١٥٪ من إجمالي اللاجئين السوريين في لبنان أي مئة وستة عشر ألف حمصي من الثمانمئة وخمسين ألف سوري في لبنان مشكلين بذلك أكبر مجموعة لاجئين من حيث المصدر الجغرافي. أما في الأردن فيشكل اللاجئون من حمص ثاني أكبر مجموعة بعد اللاجئين من أهالي منطقة درعا جنوب سوريا. في الوقت نفسه أصبح الكثير من أحياء مدينة حمص نفسها ملجأ لأشخاص آخرين ممن هُجِّروا بسبب القتال في مناطق أخرى في البلد. وقد أورد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أنه في شهر آب/أغسطس عام ٢٠١٣ أصبح حي الوعر في حمص مأوى لأربعمئة وخمسين ألف شخصاً ثمانون بالمئة منهم مُهجَّرون داخلياً.

هكذا وصف المهجّرون ما يشتاقون إليه:

. امرأة عمرها ٤١ عاماً من حمص، سوريا  الآن في الأردن

”مشتاقة لسوريا، للهوا والمي ومشتاقة أتنفس هوا حمص. أكتر شي مشتاقة روح على قبر أمي وأبي وأوعيهم وأطلب منهم يرضوا عني يسامحوني.“   

. رجل عمره ٣١ عاماً من حمص، الآن في الأردن

”مشتاق لابني الذي ذبح أمام أعيننا و فقدت زوجتي عقلها وهي تنظر إلى ابنها وكيف تأكله الوحوش. وأقف صافنة في وجهي كل يوم كيف أنتقم منالشبيح ورئيسه الذي هو بشار. أعتذر عن الإجابة. وكما أنني مشتاق إلى والدتي. كل يوم يزداد حنيني واشتياقي لكل شيء في بلدي من ماء و ناس و بحره نهره وينابيعه.“  

. امرأة عمرها ٤٦ عاماً من بابا عمرو، حمص، سوريا تسكن حالياً في عمان، الأردن

”مشتاقة لهوى حمص، لأهلي و لجيراني. بحكي معهن بس قليل لأن الاتصالات ضعيفة بسوريا. عادة لما نحكي مع بعض بيكون حديثنا عن الوضع في سوريا و إيمتراح نرجع ومن استشهد ومن اعتُقل.“ 

\"\"

. رجل عمره ١٧ عاماً من حمص، سوريا؛ يسكن حالياً في بيروت، لبنان

”سوريا بدها ناس ترسم ع الحيط قلب حب، و هاد أحلى من السلاح.  وأنا بدي أرسم ع باب غرفتي قلب حب، وع باب جيرانا وردة، وع بيت رفيقي شمس. ما في عنا هون مدرسة زي تبعنا وما في رفقات زي رفقاتي. مشتاق لرفيقي جورج، و ما بعرف عنو شي هلأ. ما بعرف وين سافرو، و راحو. مشتاق أروح معو ع الكنيسة تبعن، ويروح معي ع الجامع. أبوي كل فترة بيحكي مع رفقاتي اللي بحمص وبيطمن ع بيتنا، وبيقلي انو منيح البيت. بس أكون أنا وسامر، منحكي عن جورج، وعن أمو وعن شجرة العيد التبعن. منحكي عن المدرسة وآنسة الرسم والموسيقى. بتمنى ترجع سوريا متل ما كانت حلوة وما فيها دخان أسود. بخاف من بكرا أنو ما أقدر أرجع ع بيتنا.“

. امرأة من باب دريب، حمص، سوريا  الآن في الأردن

”هلأ هون مشتاقة لكل شي لأنو ما عندي شي أبداً أبداً غير ثيابي وعندي غطا. أكثر شي مشتاقتله هو بيتي وأكثر واحد مشتاقتله هو ماما لأن البابا توفى وهي بحالها.“

تدور إجابات اللاجئين على سؤال "ما أكثر شيء يشتاقون إليه" حول ذكرياتهم عن أماكن وتجارب متعلقة بهذه الأماكن، وهم مدركون تماماً أن الكثير من تلك الأماكن لم تعد بنفس الهيئة التي يتذكرونها بها ومع ذلك فإنهم يحتفظون بذكرياتهم التي لن يتمكن العنف من طمسها. وتُظهر إجاباتهم على سؤالنا تعلقهم القوي ليس فقط بسوريا والأماكن فيها بل أيضاً بالأشخاص الذين شاركوهم الذكريات من الأصدقاء والأقارب والجيران الذين هم جزء من هذه الذكريات وقد كان البعض منهم قد مات أو راح إلى الأبد.

. امرأة عمرها ٢٠ عاماً من الميدان، دمشق، سوريا،الآن في الأردن

”مشتاقة لكل سوريا. مشتاقة للشام كثير وأسواق الشام و جبل قاسيون. ومشتاقة أمشي بشارع الحميدية ولكل شارع بالشام. مشتاقة أكتر شي لخالتي الصغيرة لأن هي من نفس عمري وكنا رفقات وأخوة. وطبعاً مشتاقة لكل الناس يلي بيعرفهم. أكتر شي بفكر فيه أرجع على سوريا وشوفها محررة.“ 

\"\"

رجل عمره ٢٥ عاماً من درعا، سوريا، يسكن الآن في إربد، الأردن

”أكتر شيء مشتاق له هو جلسات السهر مع أصدقائي وأقاربي على شفى وادي اليرموك. ومشتاق "لطبخات" أمي... أمي هي أكتر شخص مشتاق له... أكتر شيء بفكر فيه هو كيف بدي أرجع عسوريا ؟!.. بفكر كيف بدو يسقط هالنظام.“

. امرأة عمرها ٣٠ عاماً من دمشق، تسكن حالياً في إربد، الأردن

"أكتر شي بشتاقلوا سوف الحميدية. بشتاق أمشي بشوارع دمشق. واكتر شخص بشتاقلوا هو شخص في قلبي وبحبه. بشتاق لاولاد اختي لصغار ورفيقاتي. بشتاق للصغار اكتر من لكبار."

. رجل عمره ٢٥ عاماً من القامشلي، شمال شرق سوريا يسكن الآن في إربد، الأردن

”مشتاق لحارتي ولشجر الجزيرة ولموسم الحصاد بقامشلو. أكتر شخص مشتاقلو هو والدي لأنو هو نمّى فكري وعرفني كيف أمور الحياة وعطول بيدعمني .“

\"\"

. امرأة  فلسطينية عمرها ٤٠ عاماً من مخيم اليرموك والآن في لبنان

”مشتاقة اقعد بالمرسم ورفيقتي كانت معي بالجامعة و ضلينا على تواصل سوى بعد ما تجوزنا وما بعرف وين صارت.“ 

. امرأة فلسطينية من مخيم حجيرة، دمشق، و تسكن حالياً في مخيم  برج البراجنة، بيروت، لبنان 

”مشتاقة...ما بعرف...مشتاقة لأهلي، ولجوزي الأول ( يلي استشهد ببداية الثورة ولجوزي التاني يلي انقتل ما صرلو زمان )، ولجيراني، ولطلابي، ولمدرستي وحارتي و شارعي وبيتي، مشتاقة لكل شي. مشتاقة لحضن أمي، بعدني بحكي معها كل فترة، ع الموبايل أو الأرضي.“ 

\"\"

وأثناء المقابلات أكد السوريون القاطنون في الأردن إحساسهم بالأمن والأمان في الأردن مقرين وشاكرين للجميل. أما في لبنان فينتشر اللاجئون السوريون في كل أنحاء البلد نازلين إما في بيوت مهجورة أو تحت أسقف أو أبنية خاوية أو مازالت غير مكتملة أو حتى في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. كما يتلقون القليل من الخدمات فلا مياه ولا كهرباء ولا مراحيض، وما يبقيهم على قيد الحياة هو عملهم وكرم مضيفيهم اللبنانيين والإعانات الدولية التي يتلقونها. إلا أنه مع مرور الوقت يزداد المهجَّرون فقراً، وتزداد الحساسيات بينهم وبين مضيفيهم، ويزداد تعلقهم بمجموعات اللاجئين الأخرى، أو باللاجئين المحليين، والذين عاش بعضهم حروباً كثيرة وعانوا من الإقصاء والتهجير.

. رجل عمره ٢١ عاماً من درعا، يسكن الآن في إربد، الأردن

”اتعرفت على بعض الأصدقاء يلي ظروفهن بتشبه ظروفي و قويتْ صداقتنا بسرعة. بس رغم هيك بضل في حنين لأصدقائي يلي كانو بسوريا و يلي صار كل واحد منهون ببلد. أكتر شي بشتقلو هو حياتي بسوريا... رفقاتي يلي استشهدو منهون يلي مات بإطلاق النار منهن من استشهد تحت التعذيب بالمعتقلات. حياتي رح تكون صعبة بدونهن لأنهن كانو جزء أساسي من حياتي. كنا أكتر من أخوة. ولما نرجع رح انتقل من فراغ لفراغ آخر. لأنو ما في شي بيقدر يعوضني عنهن.“  

. امرأة فلسطينية عمرها ٢٧ عاماً، من إدلب، سوريا تسكن حالياً في مخيم برج البراجنة، بيروت، لبنان

”مشتاقة ل كل شي، انو أرجع عبلدي وثم ريحة الهوا هناك وانو حياتنا المرتاحة هناك عالقليله بتفتحي الحنفية و بتشربي. اخواتي هناك، لأن بخاف اخسرهم.“ 

 

\"\". 

. رجل عمره ٣٣ عاماً من سوريا يسكن حالياً في الهاشمي الشمالي، الأردن

”لا يوجد وجه تشابه بين حياتي هوني و حياتي بسوريا، الفرق شاسع. هنيك الواحد لا يمل هون كل شي ملل في البيت والشغل. مشتاق لأهلي وأصحابي إللي تعودت عليهن. كلنا كل أسبوع نجتمع في بيت أخواتي نأكل سوا ونحكي سوا.“  

إن الرغبة في العودة إلى سورية إلى الأمان والاستقرار الذي يسمح لهم بالعودة إلى حياتهم تجلت في إجابات معظم الأشخاص من خلال المقابلات التي أجريناها في حزيران ٢٠١٣ والتي تجاوز عددها المئة. فما الذي يجعل الناس متعطشين للعودة هكذا؟ ما الذي يجعلهم يريدون الرجوع؟ إن إجاباتهم على سؤال "ما أكثر شيء يشتاقون إليه" يعرض لنا لمحة عن العناصر الأساسية التي تُعرِّفهم وتحدد كيانهم وكيف يرون أنفسهم وكيف يرون سوريا، وهذه العناصر هي الحياة الكريمة والعائلة والبيت والعمل والطبيعية من حولهم كالأرض والهواء والنباتات بالإضافة إلى إنجازاتهم وأصدقائهم والجيران والرفاق. لا تكشف إجاباتهم فقط عما يفتقدونه في حياتهم الحالية في الملجأ ولكن أيضاً عن الأشياء التي كان لها معنى عميق في حياتهم في سوريا. فضلاً عن ذلك، تكشف هذه الإجابات أيضاً عن العديد من الصعوبات التي واجهوها قبل بداية النزاع ومن أهمها الفساد والرشوة.

. امرأة فلسطينية عمرها ٤٣ من مخيم حسينية، دمشق، سوريا والآن في لبنان

”مشتاقة لبيت أهلي بجرمانا. مشتاقة لأبوي منشان أنا يلي كنت أخدمه وأساعده وكنت أقضي وقت كبير معه. بفكر كيف عم يقدر يأمن حاجاته وكيف صحته منشان أنا يلي كنت أساعده.“ 

. امرأة فلسطينية من مخيم يرموك، دمشق، سوريا، و الآن في لبنان

”أكتر شي مشتاقتلو في سوريا هو المخيم، أخوي، و أصدقائي. أكتر شخص مشتاقتلو هو أخوي و جارتي أم إياد المرأة ابنها استشهد وما إلها حدا تروح عندو. وأخوي ممنوع من السفر. بفكر في الرجعة. بحس هونيك حياتي وبيتي وأمان أكتر.“

 

\"\"

 شخص عمره ٥٧ من درعا. شخص عمره ٥٧ من درعا و يسكن الآن في إربد، الأردن

”ببلدي كنت روح زور أقاربي وأصدقائي وشوف ولادي كلهم مع أحفادي مجتمعين حواليي، كتير بحنّ لجمعة الألفة هي، وبدعي رب العالمين دايماً أنو يلتم شملنا وأني ما موت إلا عأرض بلادي. وبشتاق لبيتي يلي عمرتو وتعبت وشقيت حتى كمّلت بنائو ولأرضي يلي بذرتها وزرعتها بعرق جبيني وكد ذراعي. كل شي ببلدي إلو معنى وذكرى خاصّة بقلبي لهيك بفضل أقول أنو شوقي لبلدي بيختصر كل شي حلو بيخطر ببالي.“ 

[ للنسخة الإنجليزي اضغط/ي هنا ]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

أدورنو والموسيقى الجماهيريّة/ الجزء الأول

تضم هذه المقالة جزءان، نحاول أن نتناول من خلالهما موقف ثيودور أدورنو من الموسيقى "الخفيفة" أو الجماهيريّة. سنتناول في النص التالي: خلفية عن حياة أدورنو، موقف مدرسة فرانكفورت من جدليّة التنوير، "صناعة الثقافة" وأخيراً موقف أدورنو في الموسيقى الجماهيريّة بشكل خاص. ليهيّئ هذا الجزء سياق الجزء الثاني، وهو عبارة عن ترجمة دراسة لأدورنو "الموسيقى الجماهيريّة في المجتمع الرأسمالي" إلى العربيّة، والتي تسلّط الضوء على تنميط الموسيقى الجماهيريّة.

أدورنو الاحتجاجي، إلى المحتج عليه

ولد أدورنو في مدينة فرانكفورت (1903) بألمانيا، في بيئة غنيّة لأب يهودي، تحوّل فيما بعد إلى البروتيستانتيّة، يمتلك شركة لتصدير النبيذ، ووالدة احترفت الغناء. كبر أدورنو في كنف الموسيقى "الجادّة" كما يسمّيها، وتعلم عزف البيانو منذ الصغر. أما تجربته خارج الجو العائلي المريح فكانت سيئة، خاصة في المدرسة حيث لم ينجح بالتأقلم وشعر بنفور من زملائه. وتزايد نفوره من مجتمعه مع تزايد الشعور القومي الألماني بعد الحرب العالميّة الأولى، مما كوّن لديه ذهنيّة رافضة للهويّة التي بحثها لاحقاً في كتاب شارك بكتابته "دراسات في الشخصيّة الشموليّة" (Studies of the Authoritarian Personality) والذي أصدر في الولايات المتحدة مع نهاية الحرب العالميّة الثانية سنة 1950.

"كطالب (جامعي)، كان أدورنو معروفاً كشخص مؤثّر وناقد موسيقي بروح المعاصرة الراديكاليّة. ومن وقتها دعم الملحن شنبيرغ، بعكس كثيرين. وكما كان يعزف معزوفات لحّنها هو". (1) وبعد أن أنهى دراسته في فرانكفورت، انتقل إلى فينّا التي رفض فيها الفصل بين المواضيع التي تعنيه: الفلسفة والموسيقى. حيث كان هذا أيضا توجهّه في المستقبل ليتناول الموسيقى وعلم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة سويًا.

 [الفيديو: مقطوعة ألّفها أدورنو للبيانو (1921)]

في ذلك الوقت، وفي بداية عشرينيّاته، تبنّى أدورنو الأسلوب الذي حوّله لأحد الباحثين المرموقين بعلم اجتماع الموسيقى، والذي عمل على تطوير الأفكار التي غيّرت طريقة تناول الأجسام الأكاديميّة والعلوم الإنسانيّة للموسيقى من آليّة تعكس الواقع فحسب إلى عنصر فعّال يستطيع أن يطرح نتائج مؤثّرة. إضافة إلى تغييره لاتجاه النقاش حول الموسيقى من التعامل مع العنصر الذي يقود الموسيقى، إلى التعامل مع ما تولّده الموسيقى. (2)

في فينّا، تلقّى أدورنو دروساً على البيانو والتلحين على يد Alban Berg (طالب شنبيرغ). وعمل كمحرّر بمطبوعة Anbruch المتخصّصة بالمقالات الموسيقيّة المعاصرة والراديكاليّة. وعندما عاد إلى فرانكفورت، عزّز علاقته بمؤسّسة البحوث الاجتماعيّة، حتى مارس عمله كمحاضر فلسفة بجامعة فرانكفورت سنة 1931 حتى صعود النازيّة في 1934. حينئذٍ، بدأت رحلة المنافي أوّلاً في بريطانيا التي علّم فيها بجامعة أوكسفورد لمدة أربعة سنوات، ثم إلى أميركا، حيث تنقّل بين نيويورك ولوس أنجيليس، منجزاً عدة أبحاث، ومجرياً محاضرات إذاعيّة عن الموسيقى.

هندست تجربته الأميركيّة نظرته لتأثير التنميط كنتيجة للرأسماليّة والاحتكار على المنتج الثقافي والفنون والعلوم. مراقباً عمليّات تقليص التنميط للفروقات بين الناس، ومعايناً تأثيراتها النفسيّة على المجتمع الأميركي، كتأثيرها على إرادة الفرد في أن يكون جزءاً من الجموع والسائد، وانعدام الموقف النقدي. بالتالي، ادّعى أدورنو، وبقسوة، أنّه لا يوجد في الولايات المتّحدة من هو مسؤول عن أفعاله وطريقة استيعابه وإدراكه للعالم، وبأن الإنسان الأميركي يتصرّف بحسب الضغوطات الجماعيّة والتقاليد القائمة في الدوائر التي ينتمي إليها. منتقداً توجهات المجتمع الأميركي معتقدًا بأن "خطر الأنظمة الاستبداديّة موجود داخل المجتمع الحديث" (راجع المصدر الأول، 2009:6).  

بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية وانهزام النازيّة، عاد أدورنو إلى ألمانيا وجامعة فرانكفورت. مجدّداً نشاطه بمؤسسة البحوث المجتمعيّة مع زميله ماكس هوخهايمر الذي عمل معه على إنجاز أهم مخرجات "مدرسة فرانكفورت": الجدليّة السلبيّة"، ومباشراً العمل بكتاب "نظريّة الجماليّات" الذي لم يستكمله.

خلال سنواته الأخيرة، تعرّض أدورنو لإدانة الحركات الطلابيّة اليساريّة الراديكاليّة، الذين عبّروا عن خيبة أملهم فيه خلال فترة التمرّد الطلابي في أواخر الستينيّات. حيث قدّم ادّعائه في واحدة من أواخر محاضراته من خلال التأكيد على التفكير النّقدي الذي أدى به إلى رفض الاحتجاجات الطلابيّة آنذاك لادّعائه أن "العنف الذي يميّز هذه الاحتجاجات يرمز لحركة غير ديمقراطيّة ستهيّئ الطريق للفاشيّة". إثر الاحتجاجات والإدانات والضغوطات التي تعرّض لها، قرّر أدورنو قضاء فترة إجازة في السويد، حيث داهمته سكتة قلبيّة في 6 آب/ أغسطس 1969 أدّت إلى وفاته.

 [أدورنو يتحدّث في هذا المقطع عن رفضه لوظيفة الموسيقى الجماهيريّة كموسيقى احتجاجيّة (خيار الترجمة إلى العربيّة متاح)]

 جدليّة التنوير

لم يهتم أدورنو بالموسيقى كرمز أو مرآة لواقع ما، بل كآليّة لتمرير وعي قد يكون إيجابيّاً أو سلبيّاً. وبالتالي: ليس هناك فصل بين نهجه وتفكيره حول الوعي في المجتمع الحديث وبين تناوله للفن والموسيقى. بل هي جزء من رؤيته الشاملة حول جدليّة التنوير، كما سنستعرضها تالياً.

قبضت الحداثة على، وحتّى سوّقت التنوير بالمعنى العابر للسياق التاريخي (Transhistorical)، على أنّها سيرورة هدفها التهيئة لتحرّر الإنسان من قيود الطبيعة، وإبراز الفرديّة، وتحقيق إمكانيّات الفرد في المجتمع. وتم اعتبار العقلانيّة شرطاً رئيسيّاً لتبلور الثقافة والتعليم كوسيلة للتنوّر. على أساس هذه الآيدولوجيّة، ظهرت شعارات مثل: "التعليم للجميع"، "إنهاء امتيازات النخب"، وشعار الثورة الفرنسيّة الشهير: "حريّة ومساواة وإخاء". وبنفس الفترة، تطوّرت التكنولوجيا والاقتصاد بهدف تحسين حياة الفرد بعيداً عن تعلّقه بالطبيعة.

نظرت مدرسة فرانكفورت إلى هذه الإنجازات بعين الشك. ففي كتابهما "جدليّة التنوير" (3)، يفسّر هوركهايمر وأدورنو مصطلح التنوير كتجسيد لجدليّة بين العقلانيّة الآليّة (حسب فايبر) المتزايدة من ناحية، وسيطرة عميقة لمنظومة الإنتاج الرأسمالي للفرد من الناحية الأخرى، القوّتان اللتان أنتجهما بنفسه. مستخلصان أن التنوير هو سيرورة لا تنويريّة، بل قمعيّة بطبيعتها، وتتضمّن اغتراباً ذاتيّاً واستعباداً متزايداً. وبالتالي، طرحت مدرسة فرانكفورت تساؤلات حول صحّة إنجازات التنوير، وثمن تطبيقها على المستوى الفردي والمجتمعي. إذ تساءلا: هل يتحوّل الإنسان في هذه السيرورة إلى كائن فردي بالفعل؟ وهل حسّن التنوير من أوضاع الحياة؟ وهل حقّاً أصبحت أساسيّات مثل التعليم والثقافة متاحة للجميع؟

تدّعي مدرسة فرانكفورت أن سيرورة التنوير، التي تجسّدت في الثورة الفرنسيّة، خدمت بشكل أساسي الطبقة المسيطرة، البرجوازيّة في حينها، وحسّنت من شروط حياتها. بكلمات أخرى، لم تكن المصلحة العامّة سوى وهم، إنّما كانت مصلحة تخصيصيّة محدودة. وهذا ما أثبتته الفجوة العميقة بين الإدعاءات العالميّة وبين الواقع، وبالتالي: الثورة الفرنسيّة لم تكن طبقيّة تسعى لتغيير التراتبيّة الطبقيّة، بل سياسيّة. مثال على ذلك: تطبيق شعار "التعليم للشعب" فيما يسمّى: تعليم للماكنة، أو التعليم شرطاً للعمل؛ في الفترة الصناعيّة، أصبح على الفرد معرفة القراءة والكتابة والرياضيّات ليكون قادراً على تلبية معايير التجارة المتطوّرة والعمل. أي أن تعليم الشعب اقتصر على "التعليم للماكنة" والذي تحوّل إلى شرط ضروري لخلق وإعادة إنتاج نمط الإنتاج الرأسمالي، بينما بقي التعليم بمفهومه الأوسع مقتصراً على الطبقة البرجوازيّة.  انسحبت ذات السيرورة على الثقافة، ومن ضمنها موسيقى المنصّة والحفلات، حيث لم تكن النخبة والبرجوازيّة معنيّة باستقبال الجماهير في هذه القاعات، وبالتالي: تم خلق منظومات إقصائيّة طبقيّة جديدة، ومنها: صناعة الثقافة.

من هنا، يحاجج منظّرو مدرسة فرانكفورت في أن عبوديّة الإنسان الجديد آتية من تسليمه الطبيعة ونفسه وبخياره لمنظومة السيطرة. وهذه نتيجة لتذويت الدونيّة، وقمع الحضارة. ما يؤدّي إلى إمكانية بروز أنظمة سياسيّة واجتماعيّة فاشيّة ووحشيّة ضمن إطار الحريّة والديمقراطية، وتجسّد قوّة القمع في القضاء الممنهج على المقاومة والفردانيّة عن طريق دمجها بالنظام، وبالتالي احتواؤها.

ادّعى أدورنو أنّ ماهية الإنسانيّة، كنتيجة لهذه السيرورة، اندثرت وتحوّلت إلى منظومة وظائف اجتماعيّة. كما اندثرت ماهية الفن أيضاً ولم تعد مستقلة. فبحث بما سمّاه "فشل المنطق" الذي بلغ ذروته أثناء أحداث القرن العشرين الكارثيّة. واهتم، بشكل خاص، بتغيير الوعي الذي أدّى إلى سيطرة هذه الأنظمة الفاشيّة والنّازيّة (دينارو: 2003، راجع المصدر الثاني). في حين أن مشروع "جدليّة التنوير" بدأ كإشكاليّة فلسفيّة وموضوع فلسفي، استمرّ كبحث اجتماعي- نفسي للوعي البشري. إذ رأى أدورنو أن خطورة سيرورة التنوير لا تكمن فقط في عدم إبراز الفردانيّة بالفعل، بل أيضاً في خلق منطق موحّد لدى جميع البشر، وبالتالي يصبح الوعي محافظاً. كما تستطيع هذه السيرورة احتواء المقاومة، وبالتالي منع أي ردّة فعل. بالنهاية، تُقحم سيرورة التنوير هذه على الإنسان أنماط تفكير استبداديّة تتجاوب مع أساليب معروفة سلفاً، وليس بمنطق التعامل مع مخرجات الواقع. مثلاً: بنيت الموسيقى الجماهيريّة أو "الخفيفة" (Pop Music) من أنماط معروفة مسبقاً(4). تتركّز خطورة هذا المبنى في السيرورة التي ترافقه، وهي فصل الوعي عن الواقع، حيث تستبدَل القيمة الحقيقيّة للمنتوج بقيمة التبادلات الحديثة للمنتوجات المتعلّقة بالثقافة التي بنيت حوله، وبذلك تتكوّن في وعينا قيمة جديدة للمنتوجات التي لا تطابق قيمتها في الواقع. يدّعي أدورنو أن إحدى النتائج البارزة لهذا المنطق الجديد هو العبادة العمياء للعلوم. لذلك، رأى أن وظيفة الفلسفة الحديثة هي الكشف عن هذه الفجوة بين المنطق الجديد والواقع.

الجدير بالإشارة أن أدورنو لم يبحث عن دمج الواقع والأفكار، بعكس ماركس وهيغل اللذان قدّما جدليّة إيجابيّة تسعى إلى يوتوبيا- مثاليّة معيّنة، بل اكتفى بالجدليّة السلبيّة، ساعياً لتحسين المنطق وكشف تعقيدات الواقع. وبسبب ذلك، آمن أن حل التنوير هو بالتنوير نفسه، وبعقلانيّة فقط.

 صناعة الثقافة

ادّعى أدورنو أن الفنون تتخللها حقيقة غير ملموسة بحاجة لتفسير فلسفي، وأنّها، بكلماته: "قوّة التقدّم المجتمعي"؛ فمن جهة، اعتبر أن الفنون مستقلّة وتهدف إلى رفض الواقع القمعي، ومن جهة ثانية تهدف لإيقاظ الوعي وصولاً إلى إمكانيّة إقامة واقع اجتماعي بديل. وأن الفنون تعمل بوظيفة نقد الـ"أنا"، ونقد الواقع القائم من خلال التجربة الجماليّة، حيث يدعي أدورنو أن على الفن صدم الفرد جماليّاً حتى يعيش تجربة ماهية العمل الفنّي. وعلى النقيض من ذلك، تهدف الثقافة "الانحطاطيّة" إلى المحافظة على الواقع الموجود.

ادّعى أدورنو وهوخهايمر (1947) في مقالهما "صناعة الثقافة: التنوير وخدعة الجماهير" (فصل من كتاب "جدليّة التنوير"، راجع المصدر الثالث)، أن الثقافة اليوم تتعلّق بالمجتمع الصناعي. ويحدّد هذا الربط الثقافة إلى درجة أنّها تتحوّل، بذلك، إلى ثقافة متجانسة، من حيث أن الأسعار المختلفة للمنتوجات لا تعكس اختلاف الجودة (كمثال عن الفشل في المنطق المذكور أعلاه)، بل توفّر ترتيباً هرميّاً للمنتوجات بجودات "مختلفة" تناسب أفراداً بمستويات مختلفة. أي أن المستهلكون تحوّلوا إلى مادة ثابتة يتم تقسيمهم إلى تصنيفات تحتوي على أنماط جاهزة.

استعمل أدورنو وهوخهايمر مصطلح "صناعة الثقافة" كبديل عن مصطلح "ثقافة الجماهير"، وذلك بهدف إلغاء، من الأساس، كل التفسيرات التي تدّعي أن هذه الثقافة نبتت بشكل عفوي من الجماهير، أو أنّها صيغة الموسيقى الشعبيّة الآنيّة. نبعت صناعة الثقافة من سيرورة جدليّة الحضارة التي سيطر فيها الإنسان على الطبيعة، وبما في ذلك سيطرة الإنسان على الإنسان الآخر. ورأى أدورنو أنّه لا يمكن تجسير الفجوة ما بين الفن المستقل وصناعة الثقافة. إذ مع أن الفنون كانت دوماً سلعة، إلا أنّها لم تكن يوماً سلعةً فقط. بالمقابل، صناعة الثقافة هي فقط سلعة من دون الحاجة لإثبات ذلك لأنها تعرّف ذاتها كـ"صناعة"، ما يجعلها جزءاً من الواقع، وليس فنّاً. تتجلّى ماهية صناعة الثقافة حسب أدورنو في تكرار الواقع، لتتحوّل الثقافة لـ"كيتش" الذي يعرّفه أدورنو على أنّه: نسيج ثابت يعيد ويكرر ذاته، وينذر بلاتغيير أبدي ومتواصل. ومن هنا، يقول أدورنو أن للـ"كيتش" سحراً تخديريّاً كان موجوداً طيلة الوقت، إلّا أنّ الاختلاف في صناعة الثقافة اليوم عن الماضي، أنّه في الماضي سيطرت الثقافة "العالية" التي منعت من التكرار غير الآلي للنظام، وبالتالي انفصلت عن الـ"كيتش". لذلك، يقول أدورنو أن الجماهير ليسوا معيار الحقيقة لصناعة الثقافة، بل آيدولوجيّتها، فصناعة الثقافة توهم مستهلكيها بأنها تكيّف ذاتها مع ردّة فعل الجماهير، بينما في الواقع هي التي تكوّنه وتمنح الجماهير عدّة منتوجات متشابهة تعمل على ترفيههم بدلاً من صدمهم وزعزعة الوضع الراهن. بهذا الطريقة تضعف "الأنا"، وتختفي ماهية الفن، وصولاً إلى ما سمّاه: "نزع الفن عن الفن". 

 أدورنو والموسيقى

للموسيقى، حسب أدورنو، وظيفتان معرفيّتان، الأولى: تجسيد حقيقة الفرد، وعلاقته مع البيئة والمجتمع. تذكّر هذه الوظيفة الفرد بخساراته: الأوضاع المختلفة تحت نظام مختلف، لأن الموسيقى قوّة التقدّم الاجتماعي المتواجدة بمقدّمة المجتمع. والوظيفة الثانية: تجسيد العلاقة بين التفاصيل والكلّي، وذلك من خلال وظيفة الموسيقى المجرّدة التي ترسي مثالاً تعليميّاً بديلاً لطريقة ترتيب المواد. (دينارو: 2003، راجع المصدر الثاني). لكن الموسيقى تحوّلت، كجزء من الثقافة في فترة التنوير، إلى جزء من الصناعة التي تكسر حالة عدم الخضوع، وتجبرها على الخضوع لذات المعادلة الثابتة التي تبدّل المقطوعة الموسيقيّة. يتم التعبير عن هذا الانتصار من خلال الكلّي والتفاصيل، بما أن المعادلة ترسّخ الكلّي من دون علاقته مع التفاصيل. ففي مقال "صناعة الثقافة: التنوير وخدعة الجماهير"، يتناول هوركهايمر وأدورنو الأنماط المتكرّرة بصناعة الثقافة للمعادلة الثابتة في الموسيقى (أدورنو وهوركهايمر، المصدر الثالث 1947:162): "ليس فقط أنّه يتم تكرار الأنماط غير المتغيّرة بشكل دوريّ، مثل المشاهير ومسلسلات التلفزيون، بل حتّى المحتوى المعيّن للترفيه نابع من هذه الأنماط، وتغييره ظاهريّاً فحسب. فالتفاصيل والعناصر ذات قابليّة للتبديل. فسلسلة الأبعاد القصيرة لنوتة، وقوع البطل في فخ عابر(..) جميعها كالتفاصيل الأخرى كليشيهات جاهزة سلفاً يمكن استعمالهم في كل مكان. لا تتعدّى وظيفتهم دورهم في المخطّط الكامل. فالتأكيد على المخطّط يوفّر لهم الحق في وجودهم... ففي الموسيقى الخفيفة، يمكن للأذن المتدرّبة، بعد الاستماع إلى أوّل جملة موسيقيّة لأغنية مشهورة، تخمين بقيّتها، لتشعر بالسعادة عند تحقّق توقّعاتها. تطوّرت صناعة الثقافة إلى نظام ترفيهي (..) فيها يتم تفضيل تفاصيل تقنيّة عن المقطوعة التي روّجت الفكرة، وتمت تصفيتها معه".

كما نستنتج من هذا الاقتباس، رأى أدورنو أن ثقافة صناعة الثقافة "كيتش". وأن فكرتها تتجسّد في الموسيقى من خلال التنميط - مصطلح قام أدرونو ببلورته بسياق الموسيقى الخفيفية في مقاله "الموسيقى الجماهيريّة في المجتمع الرأسماليّ"(5) والذي ترجمته "معازف" في الجزء الثاني لهذا المقال. حيث يفسّر أن التنميط في المقطوعات يتجسّد من الميزات العامّة وحتى الخاصّة جداً. ويذكر مثالاً بارزاً: وظيفة اللازمة المحدّدة بـما يقارب الـ32 خانة موسيقيّة، تتجاوب مواضيع الأغاني مع المعايير وتقسّم إلى أنواع ثابتة، كذلك تتجاوب التفاصيل الصغيرة في الموسيقى الجماهيريّة مع المعايير، فعدد العناصر معروف سلفاً. مثلاً: "النوتات "القذرة"، الأكوردات، والتناغم في بداية ونهاية الأغنية، إذ يجب أن يكون هناك تناغماً أفضل من التناغم البدائي للمعادلة النموذجيّة المنمّطة. وبهذه الطريقة، تنفصل كل الإشكاليّات الموسيقيّة في المقطوعة عن النتيجة العامّة الثابتة والمعروفة سلفاً، وبالتالي: العام ممنوح سلفاً، وتقبّل الجمهور يسبق النتيجة. وبكلمات أدورنو: معطى سلفاً، مقبول سلفاً حتى قبل خوض التجربة ذاتها.

يحاجج أدورنو في المقال بأن الجمهور يدرك الأغاني كمنتوجات جديدة ومختلفة رغم معالجتها الثابتة. وذلك بسبّب ما أسماه "عنصر الفردانيّة" للتفاصيل داخل الأغاني كنتيجة لهذا العامل، يتجاوب الجمهور مع التفاصيل بدرجة أكبر من الكلّي، وهكذا يتناول المقطوعة كأغنية جديدة. إلا أنّه يفسّر أن عنصر الفردانيّة هو، في الواقع، شبه فرداني، وذلك لأن تفاصيل الموسيقى الجماهيريّة الخفيفة لن تشكّل الكلّي أبداً. فمن الممكن تغيير أماكن التفاصيل لأنّها ليست بذي أهميّة أو وظيفة حقيقيّة، مثل: أسماء الفرق أو الأغاني، وتصميم المنصّة ومقطوعات الارتجال. إذ توفّر كل هذه الأمور للمستمع شعوراً بأن ثمّة عناصر مميّزة في الأغنية بما يمكّنه من التعلّق بها، لكنّه شعور غير واقعي، حيث أن هذه التغيّرات لا تؤثّر في المعادلة الثابتة، كما وأنها تظهر كإمكانيّات وأصنافاً موسيقيّة كثيرة ومختلفة، لكنها في الواقع تشبه بعضها. تجربة المستمع الثابتة في الموسيقى الخفيفة لا تؤدّي إلا إلى ردود فعل منمّطة تدخل المستمع إلى منظومة ردود فعل ثابتة، وهذا ما يمنع عنه التجربة الفردانيّة. وذلك خلافاً لتجربة المستمع في الموسيقى الجادّة، حيث يهتم ويتعلّق بالحبكة المعروضة ويتساءل عمّا سيحدث لاحقاً وكيف ستتبلور، في هذه الحالة لا توجد معادلات ثابتة ومخطط جاهز، بل تبني العناصر المخطّط الكلّي وبالتالي تحافظ على فردانية ردود الفعل (كيفي : 2002، راجع المصدر الرابع).

فصناعة الموسيقى لا تضر بوظيفة الموسيقى والثقافة فحسب بل أيضاً بوعي الإنسان، وردود فعله وأنماط تفكيره. وبكلمات أدورنو "الموسيقى الجماهيريّة بشكل موضوعي ليست حقيقيّة وتؤدي إلى عجز في الوعي للمكشوفين إليه" (راجع مصدر رقم 6 1976:37-8). أما نتائجها المباشرة فبتنمية بشر غير مستقلين، وبلا قدرة على الحكم واتخاذ قرارات مدروسة.

رغم كتاباته العديدة عن صناعة الثقافة والموسيقى الجماهيريّة، إلا أن أدورنو كان واعياً بأن الحدود بين الموسيقى الجديّة والجماهيريّة ليست واضحة دائماً. ولعلها في الحاضر صارت حتى أقل وضوحاً، حيث أن الفترة التي تبلورت بها نظريّة أدورنو كانت فترة مشحونةً جداً في الحرب العالميّة الثانيّة، إضافة إلى حقيقة أن أدورنو لم يعتمد هذه النظريّة وفق أبحاث تطبيقيّة. أما الآن، في وقت تتعمّق فيه الرأسماليّة بحيث لا مجال لانهيارها إلا بانهيار الحياة كما نعرفها، إضافة إلى تعمّق صناعة الثقافة التجاريّة وترسيخها كطريقة حياة وثقافة مهيمنة وتداخلها بالنشاط السياسي، يمكن لنا أن نطرح تساؤلاتنا حول صلة النظريّة بواقعنا الآن، وحول نتائجها إذا ما قورنت بواقعنا في عصرنا هذا.

[نشرت المقالة للمرة الأولى على “معازف". يعاد نشرها بالاتفاق مع المجلة]

هوامش: 

(1) Schweppenhauser, G. (2009)‫. Theodor W. Adorno an introduction‫. Duke University press Durham and London.

(2) DeNora, T. (2003). After Adorno; rethinking music sociology. Cambridge University Press. 

(3) Adorno and Horkheimer (2002)‫. Dialectic of Enlightenment‫. Stanford: Stanford UP‫.

(4) Kivy P. (2002). Introduction to philosophy of music. Oxford : Clarendon Press.

‪(5) Adorno, T, (1941). “On popular music”. 

‪http://www.icce.rug.nl/~soundscapes/DATABASES/SWA/On_popular_music_1.shtml

(6) Adorno, T, (1976). Introduction to the sociology of music . Trans. E.B.Ashton. New York: Continuum‫.